'إبن خلدون' والنبوءة السياسية: حين فهم المُلك قبل أن تكتمل الدولة!
يقف تمثال ابن خلدون في قلب العاصمة التونسية منذ ما يقارب النصف قرن، شامخًا في ساحة الاستقلال، كأنما هو حارس الزمن وفيلسوف المدينة. أمامه مباشرة يمتد الشارع الرئيسي حيث يواجه هادئا تمثال الزعيم الحبيب بورقيبة، في حوار رمزي بين الفكر والسلطة، بين التأمّل والحُكم.. فهل يدرك التونسي اليوم، وهو يمرّ مسرعًا في زحمة المدينة، أن بينه وبين تمثال ابن خلدون صمتًا يختزن قرونًا من الفكر، وأن ظل هذا الجاثم قبالة كاتدرائية "سانت فنسنت دي بول" والسفارة الفرنسية، ليس لمجرّد رجل من البرونز مُتعمّم يحمل كتابا، بل لصاحب نظرية سبقت زمانها بقرون وفهم قيام الدول وسقوطها، قبل أن نُولد، وربما قبل أن نُفكّر؟
يُجيبنا المؤرخ لطفي عيسى خلال استضافته في برنامج ''واحد من الناس'' مع شاكر بسباس، على جانب من هذا التساؤل الحارق. إذ عاد في هذا الحوار على أعمال "عبد الرحمٰن بن مُحمَّد بن خلدون الحضرمي" وأبرز محطات حياته، معتبراً أنه مفكّر سبق زمانه وشخصية يجب إعادة التفكير فيها بالنسبة إلى تونس وكل العالم العربي. وقد تناول هذا الحوار الطابع التجديدي لفكر ابن خلدون، وخصوصاً منهجيته القائمة على "الاحتمال" و"استحالة صدق الروايات التاريخية بشكل مطلق"، وهو ما يُميّزه عن المناهج التقليدية. كما استعرض المسار المتقلب لابن خلدون، الذي اتّسم بكثرة التنقل الجغرافي، وتعدد التجارب السياسية (بين مناصب عليا وفترات من السجن)، إضافة إلى المآسي الشخصية.
شدد المؤرخ لطفي عيسى على التوليفة الفريدة لدى ابن خلدون بين رجل الدولة والمفكر النقدي، مشيراً إلى أن كتاباته حول السلطة، والتضامن الاجتماعي (العصبية)، وانحطاط الحضارات (وخاصة حضارة العرب).. كتابات ما تزال ذات راهنية لفهم الواقع الآنيّ في العالم العربي.
أهمية الترحال والتجربة السياسية
عرّج المؤرخ لطفي عيسى على استفادة ابن خلدون كثيرًا من تنقّله الدائم، إذ تنقل بين المغرب والأندلس وتونس والقاهرة. وقد عكس عنوان سيرته الذاتية "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقًا وغربًا" هذه الروح الحركية التي طبعت مسيرته. هذا التنقل "أتاح له مراجعة تكوينه العلمي وتوسيع أفق رؤيته، كما وفّر له مادة ميدانية غزيرة'' يؤكد ضيفنا.
في البداية، كان إبن خلدون ينوي كتابة عمل تاريخي يقتصر على المجال المغاربي، لكن أسفاره، وخصوصًا إقامته في مصر، قادته إلى تحويل مشروعه إلى تأريخ عالمي تمثّل في "كتاب العبر". كان العالم العربي آنذاك فضاءً مفتوحًا، أشبه بإمبراطورية إسلامية، يستطيع فيه الفاعل السياسي التنقل والعمل في مناطق متعددة، مما أغنى تجربته بشكل كبير.
وعن نبوغه المبكّر، عرّج عيسى على تأليف ابن خلدون لأول أعماله العلمية، وهو كتاب "لباب المحصّل في أصول الدين'' في سن التاسعة عشرة، وهو كتاب يُعدّ اختصارًا وتبسيطًا لكتاب "المحصل في أصول الدين" للفخر الرازي، أحد أعلام علم الكلام في القرن السادس الهجري. ويعلّق عيسى عن ذلك قائلا : ''في هذه السن لخّص كتاب الرازي..فماذا سيفعل بعدها؟ ! ''
أهمية التجربة السياسية
''هذا الرجل كان له موقع..كان في دائرة السلطان وذلك ما أعطاه وجاهة.. لكنها وجاهة لا يمكن أن تكون بلا خطر'' يقول لطفي عيسى، و "رغم ما منحه منصبه من مكانة ونفوذ، إلا أنه لم يكن في مأمن من تقلبات السياسة، إذ تعرّض للسجن أكثر من مرة على يد حكّام مختلفين".
امتلك ابن خلدون تجربة سياسية طويلة، وكان منغمسًا بعمق في دوائر الحكم والسلطة. فقد تقلّد مناصب عليا مثل الحجابة (ما يُشبه منصب الوزير أو كبير المستشارين)، و"كاتب الإنشاء" (ما يعادل مدير الديوان أو مدير التشريفات)، كما عمل في التعليم والقضاء، لا سيما كقاضٍ مالكي. اعتبر لطفي عيسى أن هذه التجربة السياسية أثّرت في تكوينه الفكري وكتاباته، حيث تعلّم السياسة على يد شخصيات بارزة مثل "ابن تَفَرُّكِين". وتُظهر المصادر "أن السياسة كانت في نظره مجالًا معقدًا يتطلب الاحتكاك بالناس والقدرة على التكيّف والمناورة، وقد مارس بنفسه هذا النوع من التلون السياسي، متنقلاً بين النفاق، والموافقة، والمغادرة، بحسب الظروف" شدّد ضيفنا.
ويقول لطفي عيسى في هذا السياق ''لم يكن ابن خلدون يكتب كموظف إداري عادي، بل كمن خاض غمار السياسة بنفسه، وعرف حدودها وتحمّل عواقبها. وقد جاء هذا الإدراك من خلال مشاركته الفعلية في دوائر الحكم والسلطان''.
منهجية تاريخية جديدة وغير مسبوقة
خالف ابن خلدون المنهج التاريخي التقليدي الذي كان يعتمد على سند الرواية و"الجرح والتعديل". رغم تكوينه الديني وكونه قاضيًا مالكيًا، إلا أنه تجاوز الشكلانية في تقييم الأخبار. أسس منهجه على تحليل الأخبار عبر عدة مستويات: النسب، أحوال المعاش، والملك (السلطة).. وأبرز ما ميّز منهجه هو تحليل "أحوال المعاش"، أي كيف يعيش الناس؟ ومن أين يقتاتون؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟ وهو طرح حديث ومقارب للانشغالات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، حسب لطفي عيسى.
كما عرّج ضيفنا على تميّز وتفرّد إبن خلدون بنظريته الفريدة في "الإمكان والاستحالة"، فالأحداث التاريخية لا تُقبل لمجرد ورودها في المصادر، بل تُفحص بعين المنطق: إن كان الحدث ممكنًا في سياقه التاريخي، قُبل، أو رُفض. ويقول ''سمحت له دراسته للفلسفة والمنطق بـ "نزع القداسة عن الخبر"، أي التعامل مع الرواية التاريخية على أنها موضوع للتحقيق لا للتقديس. ورغم ذلك، لم يُطبق هذه المنهجية بشكل صريح على الروايات المؤسسة للإسلام في العبر، ربما لاعتبارات تتعلّق بذهنية عصره''.
تأسيس نظريات اجتماعية وسياسية جذرية
يؤكد المؤرخ لطفي عيسى، أن السلطة في نظر إبن خلدون مفتاح الثروة والجاه، لكنها تأتي على حساب ''الأنفة''. وهذا المفهوم يُناقض التحليلات الغربية التي تعطي الأولوية للاقتصاد والمجتمع على السياسة. كما يرى أن العصبية وإن كانت مرتبطة بالنسب والدم، فإنها ليست عنصرية، بل تُقدَّم كآلية ضرورية للتماسك الاجتماعي وللوصول إلى الحكم، يفسّر لطفي عيسى.
راهنية فكره اليوم
يرى لطفي عيسى أن فكر ابن خلدون كان سابقًا لعصره، وقد سبق بعض المفكرين الغربيين مثل "شبنغلر" في تحليل أفول الحضارات، ونظرياته حول السلطة والعصبية لا تزال مفاتيح لفهم بنية المجتمعات العربية. فقد تحدّث إبن خلدون عن فقدان "الملكة" أي الكفاءة والقدرة على الحكم لدى العرب، وهو تحليل يُستعاد اليوم لشرح التردي السياسي والثقافي في العالم العربي. كما نبّه إلى خطورة تقديس السلطة، وربط قربها بالثراء والمذلة معًا. ولاحظ مبكّرا "ظواهر مثل صعود المنجمين وتفاهة النخب زمن انحطاط الدول، وهي تشخيصات لا تزال تُرى اليوم في كثير من السياقات".
خلص لطفي عيسى إلى أن "ثورة ابن خلدون" لم تكن ممكنة لولا حركته الجغرافية الواسعة وتجربته السياسية العميقة، واللتين مكّنتاه من صياغة نموذج نقدي وتحليلي استثنائي في الفكر العربي الإسلامي. هذا النموذج، القائم على التحليل الواقعي والمنطق والظروف المعيشية، لا يزال اليوم أداة لفهم حاضرنا العربي المعقد.
أمل الهذيلي